مع إطلاق حركة حماس هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ألغت إسرائيل تصاريح العمل لعشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين خصوصًا من قطاع غزة مما تسبب في أزمة كبيرة داخل كيان الاحتلال، وأثار الذعر في قطاع البناء الإسرائيلي تحديدًا بعد فقدانه المفاجئ العمالة التي كان يعتمد عليها دون وجود بديل جاهز لسد هذا العجز الكبير.
وزاد الطين بلة هروب آلاف العمالة الأجانب والآسيويين خصوصًا، بجانب تعطل القوة العاملة اليهودية بسبب طلب نسبة كبيرة منهم للخدمة العسكرية ضمن قوة الاحتياط.
شكلت الوظائف الدنيا تحديًا على مدار سنوات عمر الاحتلال الإسرائيلي ومن قبل عام 1948 بكثير، فقد تأسس الهستدروت (الاتحاد العام لعمال إسرائيل) عام 1920 لتنظيم توظيف العمالة اليهودية واستبعاد العمال الفلسطينيين من الاقتصاد، لكن طوال عشرينيات القرن العشرين، ظلت أعداد اليهود الذين يغادرون فلسطين أعلى من القادمين إليها، وكانت هذه معضلة رئيسية بالنسبة للحركة الصهيونية، كما أن نقص العمالة والتوسع الاستعماري الاستيطاني بعد إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 أدى إلى استيعاب العمال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي؛ ففي الفترة ما بين عامي 1948 و1967، كان العمال الفلسطينيون يشكلون ربع القوى العاملة الإسرائيلية في مجال البناء والزراعة.
وبعد 1967 نمت الصناعات الأمنية وتوسعت ميزانية الأمن والصناعات العسكرية، مما أدى إلى تشغيل مزيد من الأيدي العاملة اليهودية، خصوصاً من الطبقات الدنيا الشرقية، وقد استمرت تلك التغيرات التي طالت سوق العمل خلال عقد السبعينيات؛ فزاد اعتماد صناعة البناء في إسرائيل إلى حد كبير على العمال الفلسطينيين ووصل هذا الاعتماد إلى درجة كبيرة قبيل اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 حين دهس أحد المتطرفين اليهود عمالاً فلسطينيين يعملون داخل الخط الأخضر بسيارته.
استمرت الانتفاضة الأولى حتى عام 1992، وشهدت إضرابات عمالية أضرت باقتصاد الاحتلال، وتكرر المشهد ذاته خلال الانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2005، مما دفع إسرائيل للعمل على استبدال غالبية العمال من الضفة الغربية وغزة بعمال مهاجرين مؤقتين من الخارج، بخاصة من أوروبا الشرقية والصين وتركيا وتايلاند.
ثارت نقاشات مطولة حول هذا الأمر، وكان حاضرًا بقوة دراسة مثال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؛ إذ كان اعتماد الحكام البيض على العمالة المحلية خطأً من وجهة النظر الصهيونية لأن ذلك يجعل المشروع عرضة لضغوط ومقاومة العمال من السكان الأصليين، لذا عملت إسرائيل باستمرار على قمع قدرة العمال الفلسطينيين على تعطيل المشروع الاستعماري الاستيطاني.
تبني البعض وجهة نظر مغايرة، مفادها أنه مع سحب العمال الفلسطينيين إلى سوق العمل الإسرائيلي يتضاءل وجودهم النشط والمستمر على أراضيهم، مما يُسهّل مزيدًا من حملات نزع الملكية وتوسيع الاستيطان، كما أن من المثير أن البنية التحتية للمشروع الاستعماري الاستيطاني تعتمد على سواعد السكان الأصليين الذين يتم تهجيرهم وطردهم من ممتلكاتهم باستمرار، وبالطبع فإن سبب هذا المشهد المتناقض هو غياب البدائل والحصار الطويل الذي يخنق فرص الحياة في أماكن التجمعات الفلسطينية.
تشير التقديرات إلى أن عدد الفلسطينيين الذين يعملون لدى إسرائيل، سواء داخل الخط الأخضر أو المستوطنات، بلغ قبل حرب غزة الحالية 193 ألف فلسطيني، منهم 72 ألف عامل كانوا يعملون في قطاع البناء قبل السابع من أكتوبر الماضي.
وكان منطق الاحتلال في تشغيلهم هو أن توظيف الفلسطينيين سيسمح بمزيد من السيطرة عليهم من خلال منح العمل وحجبه، فاعتمادهم على سوق العمل الإسرائيلي يجعلهم مجبرين على الانضباط، وتم ربط تصاريح العمل بالهدوء السياسي، فصارت وسيلة مهمة في تهدئة الفلسطينيين. إضافة إلى أن الاعتماد على عمال من الضفة الغربية وغزة يوميًا يعفي شركات البناء من توفير سكن لهم لأنهم يعودون يوميًا إلى بيوتهم.
عمل اللواء غسان عليان منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في مناطق السلطة الفلسطينية، على اعتماد سياسة المنح والمنع عوضًا عن التصعيد العسكري أحيانًا؛ فعندما تشتد التوترات ربما يمنع العمال الفلسطينيين من دخول الخط الأخضر ليومين أو ثلاثة، وإذا هدأت الأمور تم السماح لهم بالعودة إلى أعمالهم، وكان استخدام هذا السلاح مؤثرًا في غزة بشكل لافت خصوصًا بعد معركة سيف القدس عام 2021، التي تعرض القطاع فيها لدمار واسع أضر بالجانب الاقتصادي والمعيشي للسكان.
قد أصدر الاحتلال نحو 18500 تصريح عمال غزة للعمل داخل إسرائيل، ومع انطلاق عملية طوفان الأقصى تم احتجاز الآلاف منهم الذين تصادف وجودهم داخل الخط الأخضر، ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية في 17 أكتوبر أن أربعة آلاف غزاوي تعرضوا للاحتجاز.
مع انعدام قدرتهم على العودة إلى بيوتهم في غزة، توجه عديد من العمال إلى الضفة الغربية، وتمكن عديدون منهم من العثور على مأوى هناك لدى سكان المنطقة وفي ملاجئ أُقيمت لهذا الغرض. وأفاد عدد من عمال سكان غزة الذين أرادوا العبور إلى الضفة الغربية عبر الحواجز الإسرائيلية أنه تم احتجازهم لساعات طويلة، وتمت مصادرة هواتفهم المحمولة والأموال النقدية التي كانت بحوزتهم.
وفي 11 أكتوبر اتضح للعمال الغزاويين أن تصاريح عملهم ألغيت رغم أنهم خضعوا قبل استصدارها لفحوص أمنية إسرائيلية مشددة، مما يستبعد احتمال انخراطهم في حركات المقاومة.
يواجه العمال الأجانب في إسرائيل ظروفًا غير مواتية، وخصوصًا العمالة الرخيصة غير الماهرة كعمال البناء، وقد لقي عشرات العمال الأجانب حتفهم في إسرائيل خلال الحرب، منهم على الأقل ثلاثين مواطنًا تايلانديًا وعشرة نيباليين، ويُقال إن هناك أكثر من مائة ألف عامل أجنبي في إسرائيل، يعمل غالبيتهم كمقدمي رعاية، وكذلك في الزراعة والبناء.
ومنذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، فر الآلاف إلى بلادهم لكن آلافًا آخرين لم يفعلوا، وذلك لأن ظروفهم المعيشية في أوطانهم تدفعهم للمخاطرة بحياتهم مقابل المحافظة على فرص عمل قد لا يحظون بمثلها بسهولة. كما أن الحكومة الإسرائيلية تُكبِّل الكثيرين منهم بديون -منذ البداية- فتجبرهم على الاستمرار في العمل لسدادها؛ فإسرائيل تجعل العمال يدفعون رسوم التوظيف بأنفسهم، وهي ممارسة أثارت انتقادات من خبراء العمل حول العام.
كما أن ارتفاع الطلب بين العمال المهاجرين على الوظائف في إسرائيل، التي غالبًا ما تكون أجورها أفضل بكثير من الوظائف المماثلة في بلدان أخرى في المنطقة، يؤدي أيضًا إلى قيام وكالات التوظيف في بلدان العمال الأصلية بتضخيم الرسوم التي تفرضها مقابل تأمين العمل لهم في إسرائيل، فيقع العمال في فخ الديون، إضافة إلى وضعهم القانوني غير المستقر في كثير من الحالات بسبب احتفاظ أصحاب العمل بجوازات سفرهم ومسئوليتهم عن تصاريح عملهم.
وسط تفاقم أزمة العمالة الذي أصاب أنشطة اقتصادية عديدة بالشلل، لجأت إسرائيل إلى استقدام عمال جدد بشكل عاجل خصوصًا من الهند، ففي نوفمبر 2023، أعلنت جمعية البناء الإسرائيلية حاجتها إلى ما بين خمسين وتسعين ألف عامل لتعويض غياب العمالة الفلسطينية، وطالبت الجمعية حكومة بنيامين نتنياهو بالتواصل مع نيودلهي لجلب عمال، وهو ما تم بالفعل إذ سافر مسئولو توظيف إسرائيليون للهند لإتمام الإجراءات اللازمة.
ويعمل بالفعل نحو 18 ألف هندي في إسرائيل، وفي الأسبوع الأخير من يناير 2024، تم إجراء المقابلات والاختبارات والفحوصات لآلاف العمال الجدد في الهند، وفي الرابع من فبراير، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها ستجلب 65 ألف عامل أجنبي من دول آسيوية على رأسها الهند.
ومما أسهم في إنجاز الأمر سريعًا أن تل أبيب كانت بدأت بالفعل في هذا الأمر قبل اشتعال الحرب بعدة أشهر؛ ففي مارس 2023 أجرت بعثة مشتركة من عدة وزارات إسرائيلية زيارة للهند لبحث توظيف عمال في قطاعي التمريض والبناء، وزارت مراكز التدريب للتعرف على المهارات الحرفية وغيرها كإجادة اللغة الإنجليزية.
وفي مايو 2023، خلال زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى إسرائيل تم الاتفاق على إيفاد خمسة آلاف عامل هندي لقطاع البناء الإسرائيلي وخمسة آلاف آخرين لقطاع التمريض على دفعتين، على أن يصل نصف هذا العدد خلال عام، لكن يبدو أن ظروف حرب غزة سرعت العملية وزادت من حجم العمالة المطلوبة.
وتبدو الهند مرشحة بقوة لتكون المُورّد الرئيسي للعمالة لكيان الاحتلال؛ فرغم أنها قفزت إلى مرتبة خامس أكبر اقتصاد على مستوى العالم لكن مئات الملايين يعانون أوضاعًا معيشية سيئة، لذلك كان الإقبال على برنامج التوظيف الإسرائيلي هائلًا لأن الراتب أعلى بمقدار 18 مرة من معدل الرواتب المفترض في الهند.
وقد حظي البرنامج بدعم كبير من السلطات الهندية لأنه يوافق أجندتها تمامًا؛ فبجانب الفوائد الاقتصادية المباشرة فإنه يأتي في وقت تقارب غير مسبوق بين تل أبيب ونيودلهي في ظرف تاريخي يقبع فيه أقصى اليمين المتطرف في السلطة لدى الجانبين، فمودي هو أول رئيس وزراء هندي يزور إسرائيل بصورة رسمية وهو في منصبه مما يعكس عمق العلاقة بين الطرفين.
وفي عهد مودي ونتنياهو صارت الهند أكبر مستورد للسلاح من كيان الاحتلال بأكثر من مليار دولار سنويًا، كما يعد الطرفان عضوين أساسيين في مشروع الممر الاقتصادي الهندي الذي يمر بإسرائيل وعدد من الدول العربية في طريقه لأوروبا، مما عزز التعاون الاقتصادي بينهما.
ورغم المصالح الاقتصادية الضخمة التي تربط الهند بالعرب، ووجود جالية هندية كبيرة لديهم، فإنها لا تخشى من ردود أفعالهم السلبية على تطوير علاقاتها مع تل أبيب، لأن عددًا من الدول العربية تشارك بالفعل في الممر الهندي، وطبّعت الإمارات والبحرين علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وبدأت الرياض في هذا المسار بشكل معلن منذ عدة أشهر.
وبينما سمحت حكومة اليمين الهندوسي المتطرف بالمظاهرات الداعمة لإسرائيل خلال اشتعال حرب غزة، قمعت المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وخلال حملة التوظيف الإسرائيلية انتشرت تصريحات تقول إن مسلمي الهند عليهم ألا يحاولوا الاشتراك في مقابلات التوظيف تلك من الأساس.
وتم تنظيم أنشطة حملة التوظيف الإسرائيلية في الهند في ولايتي هاريانا وأوتار براديش، وكلاهما من معاقل الحزب الحاكم اليميني المتطرف، وسط أجواء ساخنة من الشحن الطائفي والسياسي، بسبب الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو الماضي.
ولم يفلح اليسار الهندي في وقف عملية إرسال الهنود إلى إسرائيل، رغم جهود عديد من النقابات العمالية في مواجهة حملة التوظيف الإسرائيلية أو حتى تعطيلها لحين انتهاء الحرب بحجة الخشية على سلامة العمال. وأصدر اتحاد عمال البناء في الهند بيانًا أكد فيه تضامنه «مع الطبقة العاملة وشعب فلسطين الذي يتعرض لهجوم الإبادة الجماعية من قبل إسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة والدول الإمبريالية الأخرى».
واليوم بعد تلقي الاحتلال ضربة قاسية في عملية طوفان الأقصى وتأكده من حيوية القضية الفلسطينية في نفوس أبنائها وكذلك الدعم الشعبي الكبير للمقاومة، يبدو أن تل أبيب حسمت أمرها في موضوع استبدال العمالة الفلسطينية بوافدين آسيويين، خصوصًا من الهند التي تتعمق علاقتها بها يومًا بعد يوم، وذلك في ظل حكم اليمين الأكثر تطرفًا في كلا الجانبين.